يرتفع منسوب الجدل والثرثرة لدى الشعوب غير المنتجة. يُبدع العرب في هذا المجال.

وعادة ما تترافق الثرثرة مع المبالغة كإحدى النتائج المتوقعة لملء النقص. وقد أبتلينا في الشرق الأوسط عامةً بوفرة في المحللين وندرة في الاستراتيجيا.

وبما أن الرئيس الأميركي يعشق التشويق أيضاً، فنحن أمام معادلة تاريخية: تحليل + تشويق – استراتيجيا = بطيخة.

وكلما ادعى "الخبراء الاستراتيجيون" أن بمقدورهم معرفة داخل البطيخة فاعلم أنهم يبالغون.

أذكر أنه في مطلع مسيرتي الصحفية، كنت أرسل تقارير وترجمات عن أبحاث صادرة لمراكز دراسات أميركية وإسرائيلية لمئات الشخصيات السياسية والإعلامية، وقد أرسلت يوماً خبراً لا أصل له من موقع يفتقد المصداقية حول نشاط عسكري أميركي مزعوم في بلد من بلدان المنطقة، وكان الهدف من إرسال الخبر تسليط الضوء على أداء الموقع الإخباري، لا تبني الخبر.

في الأيام القليلة اللاحقة فوجئت بأن إثنين على الأقل من "المحللين الاستراتيجيين" المعروفين، وممن كانت أسماؤهم ضمن لائحة المراسلة الخاصة بي، يتحدثان بملء الثقة على الشاشات العربية ويلوحان بورقة مطبوعٌ عليها الخبر الذي أرسلته، بل إن أحدهما كان يفتخر بأنه يمتلك "الوثيقة الأصلية للمعلومة الصادرة عن مركز دراسات تابع للبنتاغون"!

في جعبة زملاء إعلاميين وصحفيين آخرين ما هو مدعاة للضحك والسخرية أكثر من تجاربي في هذا المجال، لكن ما يهمني الإضاءة عليه هو غياب أي رادع أو رقابة أو محاسبة لمن يخرج في الإعلام شاهراً على الناس سيف الإثارة والتأزيم والتوتير؛ لا لشيء إلا لأن قدراته الذهنية باتت مندمجة مع بورصة الواتسآب في صالونات الثرثرة السياسية التي لا تقدم معلومات بل تزخر بالانطباعات الشخصية لأفراد يتنافسون على إظهار "الفهم".

والمؤسف أن هذه الانطباعات تتحول إلى "تحليلات" و"معلومات"، وإذا كان المستمعون والمشاهدون محظوظين – وعادة نحن من المحظوظين – يمكنهم اشتمام رائحة الأراجيل في التحليل.

في مذكراته، اقتبس وزير الخارجية الأميركية الأسبق جايمس بيكر في مقدمة كل فصل عبارة منسوبة لمفكر أو مؤرخ. وقد نقل بيكر في الفصل الخاص بالحرب في يوغوسلافيا فقرة من رسالة بعث بها الحاكم العسكري البريطاني على الهند في القرن الثامن عشر إلى الملك يكتب فيها "إن أعظم عظة يمكن أن تخرج بها من الحياة هي ألا تثق بالخبراء. فإذا استمعت إلى آراء الجند فلا شيء آمن. وإذا استمعت إلى الأطباء لا شيء صحي، وإذا استمعت إلى رجال الدين فلا شيء طاهر. والكل يطلب منك تجرع كأسه ممزوجاً بإدراك من الرأي العام الماسخ".

أكتب تدوينتي هذه وأنا استمع لتحليل أحد الخبراء العرب الذين تحظى آراؤهم بآلاف المشاركات عبر الفايسبوك ومجموعات الواتسآب، وهو في كل مرة يمارس لعبته المملة في صف الأحداث قبل أن يخرج علينا بحديث الحرب.

يا أخي، بالله عليك.. لقد وقعت الحرب حتى الساعة عشرات المرات في تحليلاتك خلال الأشهر الماضية.. ارحم عقولنا..أو أخبرنا: "أي ساعة الحرب؟!".