قررت قبل 5 سنوات أن أعود إلى الجامعة لدراسة اختصاص آخر غير الصحافة التلفزيونية، لأسباب عديدة من بينها:

– إن مهنة الإعلام لم تعد حكرًا على الإعلاميين بفعل الثورة التقنية.

– إن من شأن حيازة اختصاص ثان السماح لي بمتابعة الدراسات العليا بعيدًا عن الإعلام الذي لا أرى فيه شخصيًّا عمقًا متوافرًا في اختصاصات إنسانية أخرى.

وكوني قد راكمت في غضون 15 عامًا تجربة وخبرة وافية في صناعة المحتوى تحديدًا، فقد ارتأيت أن أختار واحدًا من اختصاصين:

– التاريخ: وهو اختصاص يغني قاموس أي كاتب أو صحفي ويسمح له بقراءة السياقات التاريخية ونتائجها والبناء عليها لمعرفة ما قد يحصل في الحاضر ( وفق نظرية أن التاريخ يكرر نفسه).

– علم النفس: وهو اختصاص خطير لمن يتعامل معه بجدية، يعيد برمجة العقل ليسمح لك بقراءة السلوك البشري بشكل دقيق وتوقعه، ما يتيح لك أن تتحول إلى محلل قادر على استشراف المستقبل بأسلوب علمي بعيدًا عن «الإبهار» الإعلامي.

ولأني أحب العمل الإعلامي وأكره شهرته في الوقت نفسه وأعتبرها خطرًا على كل عاقل، فقد قررت أن علم النفس يعزز قدراتي أكثر ويفتح لي آفاقًا أوسع في عالمنا العربي الذي يحتاج بشدة إلى نشر ثقافة «الصحة النفسية السليمة».

إحدى المواد التي تُدرس في كليات علم النفس هي «تحليل المحتوى»، وأنا هنا لا أتحدث عن المنهج العلمي المستخدم في الأبحاث والذي يُستخدم عادة في قراءة البيانات الكمية وفي المسح الميداني وعند إجراء المقارنات، بل المقصود الجانب الآخر ألا وهو الاستنتاج الناجم عن القراءة المتأنية لسمات محددة في الرسائل الاتصالية. بكلمات أخرى، فإن هذا الجانب من تحليل المحتوى هو بحد ذاته وسيلة من وسائل جمع البيانات اللازمة لإصدار محتوى آخر، من بينها الأبحاث والدراسات بكافة أشكالها.

ومنذ البدء بدراسة علم النفس، ومع أني ما زلت أصنف نفسي مبتدئًا في هذا المجال، فإن قراءاتي واهتماماتي الفكرية شهدت تحولًا جذريًا، خاصة عندما يتعلق الأمر بمتابعة المقالات والتحليلات السياسية.

ولست أبالغ إذا قلت لكم إن الكثير من التحليلات السياسية في إعلامنا العربي تعتمد تمامًا على الإنشاء والسجع والنثر وغيرها من قوالب وأدوات اللغة، أكثر منها اعتمادًا على المعلومة والتحليل والتقدير. بل إن الرائج الغالب هو قفز الكتاب والمحللين إلى استنتاجات مبنية على حديث «الصالونات السياسية» أو عبر طرح سيل من الأسئلة على شكل نقاط يجمعونها في مقالاتهم مع تقديمها للقراء على أنها إجابات!

الهدف من هذه المقدمة توضيح السبب الذي يجعل من كتابة «تقدير الموقف» أمرًا هامًا، خاصة وأنّ الطاغي في الصحافة اليوم هو غزارة في السبق الخبري على حساب المضمون، فتتسابق وسائل الإعلام في نشر الأخبار من دون أن تترك لنا باعتبارنا متابعين الفرصة لنلتقط أنفاسنا لتحليل ما نقرأ أو نشاهد.

تقنيات كتابة «تقدير موقف»

بداية لا بدّ من الإشارة إلى أنّ «تقدير الموقف» لا يقتصر فقط على التحليل السياسي، بل هو حاجة في إدارة الأعمال وفي المجالات التقنية.

في عالم الإعلام والسياسية، يزود «تقدير الموقف» القارئ أو السياسي أو صاحب القرار برأي خبير وتوصيات مبنية على بحث تحليلي، ولكن التقدير لا يحوي بالضرورة كل المعطيات التي أدت إلى بناء رأي الخبير، إذ إنّ إحدى سمات «تقدير الموقف» هي الإيجاز الهادف لترشيد الرأي ومساعدة القارئ (أو المشاهد في حال كان القالب مرئيًا) على البناء المعرفي بعيدًا عن التحيز.

عامل آخر يجب الالتفات إليه طوال فترة كتابة «تقدير الموقف» يتمثل في تحديد الجمهور الذي سيطلع على هذا التقدير. الكتابة لمركز أبحاث تختلف جذريًا عن الكتابة للصحيفة الورقية. والكتابة للصحافة الورقية تختلف تمامًا عن الكتابة لموقع إنترنت شكلًا ومضمونًا.

ولعلّ هذه المسألة من أهم الأخطاء التي يقع فيها الإعلاميون خاصة ممن لم يواكبوا الحداثة في المهنة، فترى البعض يلجأ إلى النموذج البحثي التقليدي في حين أنّ المخاطب هو جمهور الأونلاين الذي تختلف سلوكياته في التصفح والقراءة عن سلوك القارئ النخبوي.

أما الخطوات العملية لكتابة «تقدير الموقف» فيمكن إيجازها بالتالي:

– حددّ الموضوع أو المشكلة التي يعالجها التقدير. بطبيعة الحال، يجب ان يكون الموضوع «ساخنًا» إذا كان الجمهور المخاطب هو جمهور وسيلة إعلامية.

– ضع مشاعرك ورأيك الشخصي جانبًا. الموضوعية هي شرط لا يمكن التنازل عنه و إلا فقد «تقدير الموقف» قيمته.

– حلل المواد التي بحوزتك من دون أن تعرضها جميعها (لا وقت لدى القارئ!).

– أشر إلى كيفية توصلك إلى الاستنتاجات اذا ما استخدمت بيانات كمية أو وصفية.

– اذكر ملاحظاتك حول المعطيات التي استندت إليها إذا ما كان الأمر ضروريًا.

– صغ استنتاجاتك على شكل توصيات أو تحذيرات.

– إذا كنت بصدد كتابة توصيات، عليك تحديد فرضية مختلفة تفسر السياق الذي ستؤول إليه الأمور في حال حصل حدث من خارج الحسابات.

– حدد بشكل موجز النتائج المختلفة المعارضة لتقديرك. (هذا يغني ورقتك ويغني القارئ).

هذه الخطوات عامةً تضمن إصدار تقدير موقف نموذجي، علمًا أن أفضل منهج لفحص ورقتك النهائية هو نفسه تحليل المحتوى الذي تحدثنا عنه في البداية. وهنا قد تحتاج إلى تطبيق نوعين من أنواع تحليل المحتوى:

– تحليل المفاهيم Conceptual Analysis

– تحليل العلاقات Relational Analysis

وهذه مسألة تحتاج إلى معالجة مستقلة.

في الخلاصة، يشكل «تقدير الموقف» العلامة الفارقة في عالم الإعلام السياسي اليوم إذا ما تم إتقانه، مع دمج وسائط عرضه وفق التقنيات الحديثة. وسرعان ما سيجد أي صحفي يتمرس في هذا النوع من الكتابة نفسه في مصاف الكُتاب الذين ينتظر الناس مقالاتهم.

.إشارة أخيرة إلى أن «تقدير الموقف» بات يُستخدم أيضًا في مجال تطوير الذكاء الصناعي.