كنت أنوي عنونة هذا المقال بـ"سلّموا الكوكب للنساء"، ولكني تردّدت في ذلك، نظراً إلى سيل الاعتراضات – وربما الشتائم – الذي سألقاه من معشر قوم "تويتر" و"فيسبوك" وقبائل "إنستغرام" و"تيك توك" ممن لن يبذلوا جهداً لقراءة مضمون النص، علماً أن هذا المقال ليس في أيّ حال دعوةً لتبني النسوية أو دفاعاً عن حقوق المرأة، بل هو ببساطة محاولة لمقاربة مباشرة وبسيطة لموضوع الإدارة والقيادة في حال تصدَّت لها النساء، انطلاقاً من تجربة بعض الدول الأوروبية والأوقيانية التي تتزعمها نساء أثبتن جدارتهن ورفضهن الانحياز الكامل لمحور ضد آخر، كما هو حاصل في معظم البلدان.


من وجهة نظر سيكولوجية، فإنَّ المرأة تميل إلى أن تكون أكثر تشاركية و"ديمقراطية" من الرجال عند تسلم القيادة، ذلك أنَّهن أكثر ميلاً إلى التركيز على الصالح العام بسبب تعاطفهن. ومع أنَّ "التعاطف" سيف ذو حدين في عالم السياسة والإدارة، فإنّ الأزمات الكبرى كتلك التي يشهدها العالم حالياً بأمس الحاجة إلى مثل هذا "التعاطف"، وإن كانت السياقات الأيديولوجية والاجتماعية ذكورية في أغلب الأحيان.

نماذج ناجحة

عام 2018، خسرت عضو الحزب الديمقراطي الأميركي ستايسي أبرامز السباق على منصب الحاكم عن ولاية جورجيا. انقسمت تحليلات الإعلام الأميركي ما بين قائل إنها تتحضّر للترشح لمجلس الشيوخ ومدّعٍ بأنها تحضّر لخوض الانتخابات الرئاسية.

ولكنّ أبرامز وضعت رؤية لاستعادة مكانتها شعبياً عبر إطلاق مشروع ضخم لمساعدة الأميركيين من ذوي الدخل المحدود، واستطاعت خلال مبادرتها هذه تسجيل بيانات جميع الناخبين في الولاية. بالفعل، حين جرت الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، حقَّق جو بايدن فوزاً في جورجيا على حساب ترامب والجمهوريين الذين فوجئوا بخسارة واحدة من الولايات المحسوبة لهم تاريخياً.

في المقلب الآخر، وفي واحدة من أشدّ دول العالم تنوعاً عرقياً، استطاعت رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أردرن تأليف أكثر حكومات بلادها تنوعاً، واختارت وزراء من جميع العرقيات. يمكنكم مشاهدة الفيديو الشهير للسياسية المحبوبة وهي تحاول تعداد إنجازات حكومتها في دقيقة واحدة لتتجاوز الثواني الستين بأشواط، بعدما أعطت درساً لمعظم السياسيين الرجال في كون القيادة مهارة شعبية حتى في ظلّ وجود الاختلاف.

أما المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، فسواء اتفقنا أم اختلفنا معها في خياراتها السياسية، فإنها بالتأكيد كانت شخصاً مزعجاً للرؤساء الأميركيين تباعاً، مع لحاظ وضع ألمانيا كبلد تم التحكم في جميع مفاصله ومراقبته من كثب أميركياً بعد الحرب العالمية الثانية.

ولئن كانت ميركل قد لعبت بنجاح على الخط الفاصل بين المحاور المتصارعة إبان عهدها، فإنَّ حفاظها على شعرة معاوية مع روسيا - رغم عدم اتفاقها مع بوتين سياسياً - منع تأزم العلاقات مع موسكو أكثر من مرة، بل كانت ميركل من أولئك السياسيين الذين يميزون بين الاختلاف في السياسة وضرورة الاحترام، وهو ما كانت تصرح به علناً إزاء بوتين، حتى في خضم الاشتباك السياسي.

وإذا ما قارنا سياسة المستشارة الألمانية السابقة بسلفها الحالي، فإننا نلاحظ بشكل واضح جرأة الأولى وشجاعتها في الخروج عن خطاب واشنطن لمصلحة بلدها، في حين يقوم المستشار الحالي بعمليات التفافية الواحدة تلو الأخرى مع حلفاء موسكو ليمنع الآثار الناجمة عن هجومه الكلامي على روسيا.

يكفي أن تعرفوا أن جورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا، ترفض الإجهاض وزواج المثليين والموت الرحيم، وتنتفض في وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رداً على أي مساس بحقوق روما ودورها وتاريخها، وتحمل في خطاباتها على التمييز الأوروبي ضد شعبها إبان انتشار وباء كورونا، لملاحظة أنَّ السيدة المحافظة تمتلك جرأة استثنائية في التعبير، حتى في القضايا المثيرة للجدل.

عند متابعة خطابات بعض السياسيات الناجحات في العالم، ومنهن السيدات أعلاه، لا يمكنكم أن تغفلوا القوة والتميز في 3 محاور في خطابهن:

- الجرأة.

- المباشرة.

- الشفافية.

هذه الصفات الثلاث ليست مألوفة في عالم السياسة. ومع ذلك، فإن النساء تحظين عادة بنصيب أقل بكثير من الرجال في تصنيفات المجلات المتخصصة الرائدة عالمياً في مجال السياسة والأعمال والأموال والإدارة، كما هي الحال في قائمة "فورتشون" لأفضل مدير تنفيذي في العالم أو قائمة "التايم" لأكثر السياسيين تأثيراً.

هذه التصنيفات ذاتها دليل على وجود ثغرة مهمة في نظرتنا شعوباً ومجتمعات ونخباً إلى الدور الذي يمكن أن تؤديه المرأة في ممارسة مستويات قيادية في مجال السياسة تحديداً. ولئن كانت الأذهان تستحضر فوراً وزيرة الخارجية البريطانية السابقة مارغريت تاتشر وملكة بريطانية الراحلة إليزابيث أو الأميرة ديانا ذات الحضور الكاريزمي عند التفكير في أشد النساء تأثيراً في العقود الثلاثة الأخيرة، فإنَّ مقاربتنا تتوجه نحو قياديات من أصحاب المناصب التنفيذية في الدول أو ناشطات أصبحن فيما بعد رموزاً بسبب مواقف اتخذنها في لحظات حرجة قد لا يقدر الرجال في كثير من الأحيان على التعامل معها بالطريقة نفسها لاعتبارات سيكولوجية جمة.


الأرقام تدحض التحيّز

في دراسة أجرتها "هارفرد بزنس ريفيو" قبل 9 أعوام، وأعادت تحديث أرقامها ونتائجها أخيراً، تبينّ أن النساء تتقدَّمن الرجال بفارق 17 نقطة عند المقارنة بين الجنسين فيما يتعلق بـ19 مهارة قيادية.

ومع أنَّ أدبيات أغلب مجتمعات العالم تتضمَّن عبارات شعبية وإيحاءات وطرائف تنال من ذكاء المرأة أو قدراتها، فإنّ الأرقام التي تستعرضها الدراسة تدحض تماماً أي تنميط أو تحيّز.



يُظهر الجدول أعلاه أن النساء يتفوقن على الرجال في جميع العناوين، ما خلا تطوير الخبرات الفنية والمهنية وتطوير الرؤية الإستراتيجية.

وعلى الرغم من وجود دراسات مسحية أقدم عهداً من دراسة "هارفرد بزنس ريفيو" تشير إلى نتائج مختلفة، فإنَّ الفروقات بين الجنسين، في معظم الدراسات، تكاد تكون معدومة في العديد من القدرات، ما يطرح السؤال المتجدد عن مدى تأثير الثقة بالنفس في واقع الانسحاب الأنثوي أمام طغيان الرجل في المواقع القيادية عالمياً. ويمكن تفسير حقيقة هذا الانسحاب بأن الإناث بالفعل أكثر تردداً في التصدي للمناصب القيادية من الرجال الأكثر ميلاً إلى المغامرة، وإن لم يمتلكوا المؤهلات الكافية.